29

النبـي موسـى

خروج 1 ، 2

أصدقائي المستمعين ..
نحييكم باسم الله ، رب السلام ، الذي يريد أن يفهم الجميع طريق البر الذي أسسه ، وأن يخضعوا لهذا الطريق ، فيكون لهم سلامٌ حقيقيٌّ معه إلى الأبد. يسعدنا أن نكون معكم مرة ثانية اليوم ، لنقدم لكم حلقة أخرى من برنامجكم ‘طريق البر’.

هناك كما نعلم، خمسة أسفار في التوراة التي كتبها نبي الله، موسى. وفي حلقتنا السابقة، كنا قد انتهينا من سفر التكوين، وانتقلنا إلى السفر الثاني، والذي يدعي ‘‘سفر الخروج’’. وندعو الله أن ينير أذهاننا وقلوبنا في كل ما نقرأ في هذا السفر العميق، المليء بالتعليم الثمين.

ولقد رأينا سابقاً، كيف يبدأ ثاني أسفار التوراة من حيث انتهى السفر الأول. إذ رأينا نسل إبراهيم، وإسحق، ويعقوب ـ الذين هم الإسرائيليين ـ رأيناهم وهم يستقرون في أرض مصر، بعيداً عن أرض كنعان التي وعدهم الله أن يعطيها إياهم.

وهكذا، نقرأ في الأصحاح الأول من سفر الخروج:
‘‘وهذه أسماء بني إسرائيل الذين جاءُوا إلى مصر. مع يعقوب جاءَ كل إنسانٍ وبيته. رأوبين وشمعون ولاوي ويهوذا ويساكر وزبولون وبنيامين. ودان ونفتالي وجاد وأشير. وكانت جميع نفوس الخارجين من صلب يعقوب سبعين نفساً. ولكن يوسف كان في مصر. ومات يوسف وكل إخوته وجميع ذلك الجيل. وأما بنو إسرائيل، فأثمروا وتوالدوا ونموا، وكثروا كثيراً جداً، وامتلأت الأرض منهم.
‘‘ثم قام ملك جديد على مصر لم يكن يعرف يوسف. فقال لشعبه هو ذا بنو إسرائيل شعبٌ أكثر وأعظم منا. هلم نحتال لهم لئلا ينموا، فيكون إذا حدثت حربٌ، أنهم ينضمون إلى أعدائنا ويحاربوننا ويصعدون من الأرض. فجعلوا عليهم رؤساء تسخيرٍ لكي يذلُّوهم بأثقالهم. فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس. ولكن بحسبما أذلوهم، هكذا نموا. فاختشوا من بني إسرائيل. فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنفٍ. ومرَّروا حياتَهُم بعبوديةٍ قاسيةٍ في الطين واللِبْن وفي كل عملٍ في الحقل. كل عملهم الذي عملوه بواسطتهم عنفاً.’’ (خر 1:1-14)

دعونا نتوقف هنا لبرهة ..
فقد مر ألآن أكثر من ثلاثمئة عام على موت يوسف، والآن يحكم مصر فرعون أخر، ملكٌ قد نسى تماماً ما فعله يوسف من أجل شعب مصر. ولقد أوقع هذا الفرعون ظلماً شديداً على بني إسرائيل، جاعلاً منهم عبيداً له. فكم كان شاقاً ذلك العمل الذي أوكله إليهم. وربما ظن بني إسرائيل أن الله قد نسى وعده لجدهم إبراهيم، أنه سيجعل منهم أمة قوية. إلا أن الله لم ينسى شيئاً البتة. بل في الواقع، كان الله يرتب تتميم وعده الذي أعطاه لهم منذ زمن طويل.

حقاً، إن الله أمين. فهو يحفظ عهده. وما وعد به أن يفعله، فسيفعله؛ حتى وإن ظن الإنسان أن الله مبطئٌ في ذلك. فالله، هو من وضع خطة خلق أمة جديدة، منها يأتي الانبياء، ومنها أيضاً يأتي المخلِّص؛ ولا شيء يستطيع أن يعوق إنجاز هذه الخطة.

ولعلك تذكر، عزيزي المستمع، أنه عندما أعلن الله في أول مرة، خطته بشأن خلق أمة جديدة، بدأ بزوج وزوجة طاعنين في السن، وهما إبراهيم وسارة. فعندما كان إبراهيم ابن مئة سنة، أنجب إسحق؛ وإسحق أنجب يعقوب؛ ويعقوب أنجب إثنى عشر ابناً؛ وهؤلاء أصبحوا قبائل أو أسباط بنى إسرائيل الإثني عشر. وعندما انتقلوا هؤلاء إلى أرض مصر، كان عددهم سبعين شخصاً. ولكن الآن، وبعد مرور ثلاثمائة عام، صاروا أمةً عظيمة، يزيد عددها عن المليون شخص! فهل نفَّذ الله بذلك ما وعد به منذ زمن بعيد؟ وهل جعل الله من إبراهيم أمةً جديدة وكبيرة، كما قال؟ الإجابة هي نعم؛ لقد فعل. فالله أمين، ولا يمكن أن يرجع في كلمته. وهو مستحقٌ كل المجد إلى الأبد.


وفي حلقتنا اليوم، سنرى كيف اضطهد فرعون أسباط إسرائيل، جاعلاً منهم عبيداً له. إلا أننا سنرى كيف أنه في كل مرة كان يحاول فرعون فيها أن يتسلط على أسباط إسرائيل ليقلل من عددها، كان الله يجعلهم يثمرون ويزدادون في العدد أكثر فأكثر. وهكذا، يسجل الكتاب أن فرعون صار غاضباً جداً، مما جعله يصدر هذا الأمر: ‘‘كل ابنٍ يولد تطرحونه في النهر. لكن كل بنت تستحيونها.’’ (خر22:1)

فما رأيك في ذلك .. عزيزي المستمع؟
من كان يقود فرعون في هذه الخطة الشريرة؟ إنه الشيطان، ولا شك! ولماذا أراد الشيطان أن يضطهد بني إسرائيل ويدمرهم؟ ذلك، لأن الشيطان عرف أن الله قد وعد أن يرسل مخلِّصاً للعالم، يخلِّص نسل آدم من قوة الخطية والموت. وكان الشيطان يَعلَم أن هذا المخلِّص سيأتي من أمة إسرائيل. وهذا هو ما جعله يحرِّض فرعون أن يضطهد شعب إسرائيل، بل وحتى يحاول أن يمحوَهم؛ بأن يطرح كل أطفالهم الذكور في نهر النيل.

إلا أن الله، الذي هو أقوى من الشيطان، رتَّب أن يستخدم رجلاً من بني إسرائيل، ليخلِّص شعبه المختار من يد فرعون. هل تعرف اسم هذا البطل؟ نعم، إنه نبي الله المشهور، ‘‘موسى’’. إلا أن أبوي موسى، عمرام ويوكابَد، كانا أيضاً أبطال، لأنهما ‘‘لم يخشيا الملك.’’ (عب23:11؛ خر20:6) وفي الأصحاح الثاني من سفر الخروج، نقرأ عن السنين الأولى من حياة موسى.

يقول الكتاب:
‘‘وذهب رجلٌ من بيت لاوي، وأخذ بنتَ لاوي. فحبلت المرأة وولدت ابناً. ولما رأته أنه حسنٌ، خبأته ثلثةَ أشهرٍ. ولمَّا لم يمكنها أن تخبئهُ بعد، أخذت له سفطاً من البردي، وطلته بالحُمَر والزفت، ووضعت الولد فيه، ووضعته بين الحلفاءِ على حافة النهر. ووقفت أخته من بعيدٍ لتعرف ماذا يُفعَلُ به.
‘‘فنزلت ابنة فرعون إلى النهر لتغتسل، وكانت جواريها ماشياتٍ على جانب النهر. فرأت السفط بين الحلفاءِ، فأرسلت أمتها وأخذته. ولما فتحته، رأت الولد، وإذا هو صبيٌ يبكي. فرقَّت له، وقالت: هذا من أولاد العبرانيين. فقالت أخته لابنةِ فرعون: هل أذهب وأدعوا لك امرأةً مرضِعةً من العبرانيات لتُرضِع لك الولد؟ فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي. فذهبت الفتاة ودعت أمَّ الولد. فقالت لها ابنة فرعون: اذهبي بهذا الولد وأرضعيه لي، وأنا أعطي أجرتك. فأخذت المرأة الولد، وأرضعته. ولما كبر الولد، جاءت به إلى ابنة فرعون، فصار لها ابناً. ودعت اسمه ‘موسى’، وقالت: إني انتشلته من الماء.’’ (خر1:2-10)

هذه كانت قصة ميلاد موسى. تأمل فيها! فبينما كان الأطفال الذكور يُقتَلون، كان الطفل موسى يتغذَّى من أمه. وكان فرعون، الملك الشرير، هو نفسه الذي يحميه. فكانت يد الله في كل ما يحدث في حياة موسى. لقد رتب الله أن يستخدم موسى ليخلِّص بني إسرائيل من عبوديتهم. حقاً، كم عميقة هي حكمة الله! وكم تفوق حكمة الإنسان والشيطان! فهل تعرف أين نشأ موسى بعد فطامه. لقد نمى في بيت فرعون، الذي ـ كما تعلمون ـ كان يضطهد بني إسرائيل. إلا أن الله قصد أن يستخدم موسى؛ ليخلِّص بني إسرائيل من أرض فرعون. لقد اختار الله في خطته، أن يستخدم ابنة الملك الشرير ليحمي موسى. لقد عَلِم الله أن بيت الملك سيكون أأمن وأصلح مكان لموسى. وعلم الله أيضاً، أن هناك أشياء كثيرة، كان موسى يحتاج أن يتعلمها ويفهمها؛ كي ما يُعَد إعداداً دقيقاً ليقود شعب إسرئيل. وتقول كلمة الله: ‘‘فتهذب موسى بكل حكمة المصريين، وكان مقتدراً في الأقوال والأعمال.’’ (أع 22:7). إلا أن موسى كان مازال عليه أن يتعلم الكثير.

عزيزي المستمع ..
تقول كلمة الله:
‘‘وحدث في تلك الأيام لما كبر موسى، أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم. فرأى رجلاً مصرياً يضرب عبرانياً من إخوته. فالتفت إلى هنا وهناك ورأى أن ليس أحدٌ، فقتل المصري وطمره في الرمل. ثم خرج في اليوم الثاني، وإذا رجلان عبرانيان يتخاصمان. فقال للمذنب: لماذا تضرب صاحبك؟ فقال: من جعلك رئيساً وقاضياً علينا؟ أمفتكرٌ أنت بقتلي كما قتلت المصري؟ فخاف موسى، وقال: حقاً قد عُرِفَ الأمر. فسمع فرعون هذا الأمر، فطلب أن يقتل موسى. فهرب موسى من وجه فرعون، وسكن في أرض مديان، وجلس عند البئر.’’ (خر 11:2-15)

وهكذا نرى، أن في البداية حاول موسى أن يخلِّص بني إسرائيل بقوته هو. إلا أن هذه لم تكن الطريقة التي أرادها الله. لقد أراد الله أن يستخدم موسى كأداة ليحرر بني إسرائيل. فلم يكن تحرير إسرائيل ليأتي من موسى، بل من الله. فموسى نفسه لم يكن إلا بشراً، ليس له أي قوة ليحرر بني إسرائيل من يد فرعون، إلا إذا أعطاه الله هذه القوة.

ومن هنا، تخبرنا كلمة الله أن موسى عاش مدة أربعين سنة في الصحراء، في أرض مديان. فلقد كان لدى الله كثيراً من الدروس الهامة التي كان يريد أن يعلمها لموسى في هذه البرية الحارة. وهناك آية في كلمة الله تقول:
‘‘الأمين في القليل أمينٌ أيضاً في الكثير. والظالم في القليل ظالمٌ أيضاً في الكثير.’’ (لو 10:16)
فقَبْل أن يعهد الله لموسى بالمهمة الكبيرة الخاصة برعاية كل شعب إسرائيل، احتاج موسى أولاً أن يثبت أمانته في المهام الصغيرة. وهكذا، يروي لنا الكتاب أن هناك في تلك الأرض، وبعيداً عن أرض مصر، صار موسى راعياً للغنم، وتزوج وأنجب ابنين. وظل موسى راعياً أميناً لمدة أربعين سنة.
وهناك في البرية، بينما كان موسى يرعى غنم حميه، كان الله يُعدّ موسى لذلك اليوم الذي يرعى فيه موسى شعب إسرائيل. لقد كان لدى الله خططٌ عظيمةٌ لموسى، ولشعبه إسرائيل.

وتقول كلمة الله:
‘‘وحدث في تلك الأيام الكثيرةِ أن ملك مصر مات. وتنهَّد بنو إسرائيل من العبوديةِ، وصرخوا. فصعد صراخهم إلى الله من أجل العبودية. فسمع الله أنينهم، فتذكر الله ميثاقه مع إبراهيم وإسحق ويعقوب. ونظر الله بني إسرائيل وعلم الله.’’ (خر 23:2-25)

وبقي شعب إسرائيل عبيداً لزمن طويل. وكم كان الاضطهاد الواقع عليهم عظيماً! ولكن الله لم ينساهم. لقد رتب الله أن يخلِّص شعب إسرائيل من العبودية.
وربما نسأل: لماذا رتب الله أن يحرر بني إسرائيل من أرض فرعون؟ هل كان هذا لأنهم أفضل من غيرهم؟ لا؛ بل كان شعب إسرائيل خطاة مثل شعب مصر، ومثل جميع الناس.
إذن، فلماذا كان لدي الله خطط خاصة لبني إسرائيل؟ لقد كان هذا ببساطة، بسبب أمانته ورحمته. دعونا نقرأ ثانية العدد الأخير. يقول:
‘‘فسمع الله أنينهم، فتذكر الله ميثاقه مع إبراهيم وإسحق ويعقوب. (وهذه هي أمانته) ونظر الله بني إسرائيل وعلم الله. (وهذه هي رحمته)’’ (خر 24:2 ،25)

لقد تذكَّر الله، في أمانته ورحمته، عهده الذي صنعه مع إبراهيم، عندما قال له:
‘‘فأجعلك أمةً عظيمةً. وتكون بركةً .. وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض.’’ (تك 2:12-3) ‘‘أن نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم، ويُستعبَدون لهم. فيذلونهم أربعمئةِ سنةٍ. ثم الأمة التي يستعبدون لها، أنا أدينها. وبعد ذلك، يخرجون بأملاكٍ جزيلةٍ.’’ (تك 13:15-14)

وفي حلقتنا القادمة بإذن الله، عزيزي المستمع، سنرى كيف ظهر الله لموسى بصورة مميزة جداً، ودعاه للذهاب إلى مصر، ليخلِّص شعب إسرائيل من العبودية، تماماً كما وعد إبراهيم من قبل.

أعزائي المستمعين ..
نشكركم على كريم إصغائكم. وليبارككم الله وأنتم تتأملون في هذه الكلمات من المزامير:
‘‘احمدوا الربَّ، اُدعُوا باسمِه. عَرِّفوا بين الأمم بأعماله .. ذَكَرَ إلى الدهر عهدَه، كلاماً أوصَى به إلى ألفِ دورٍ، الذي عاهد به إبراهيم، وقَسَمَ به لإسحق.’’ (مز1:105 ،8-9)

ــــــــــــــــــــــ
 

الدرس الثلاثون | فهرس دراسات طريق البِرّ | المكتبة | الصفحة الرئيسية